شعب تونس العظيم

vendredi 4 mai 2012

من أجل تربية رقمية مغربية قوامها التسامح والحوار




لا يختلف الواقع الافتراضي عن الواقع الفعلي الذي نعيشه، بل إنه ليس سوى امتداد له، أو صورة أمينة عنه. وكل ما يتحقق في عالم الوجود المادي يتجسد، بناء على مقتضيات خاصة، في العالم الافتراضي. إنه واقع متنوع. نجد فيه مواقع وفضاءات تقدم خدمات لفائدة الإنسان، بغض النظر عن جنسيته أو عرقه أو عقيدته أو لغته. كما تعترضنا، ونحن نبحر في متاهاته، مؤسسات وأفراد تعكر سير التجوال وتعرقله بوسائل شتى: تبعث إليك صفحاتها فارضة عليك وجودها أو من يبعث إليك رسائل، مدعيا أنه يخاطبك وحدك من دون الناس، ليكشف لك سرا لا يمكن إلا أن يدر عليك الأرباح الطائلة، أو تجد من يقتحم ذاكرتك الافتراضية مخترقا أو ساطيا على محتوياتك أو مدمرا كل الأعمال التي قضيت الساعات الطوال في ترتيبها وجمعها.
لماذا يمتلئ الواقع الافتراضي بالأشرار امتلاءه بالأخيار؟ إنه، ببساطة، عالم إنساني، وتتدخل في عالم الإنسان أحاسيس متعددة وعقليات متنافرة. لذلك كان هذا الفضاء ملتقى للترابط والتواصل. وكان أيضا ساحة للتنافر والاقتتال. يحضر فيه الإنسان بكل تناقضاته وصراعاته. وما يعجز المرء عن القيام به في الواقع، يبدو أن بإمكانه إنجازه في الواقع الافتراضي، بل إن هناك من ينقل تناقضات الواقع المعيش إليه، فتتماهى التصورات والممارسات بكيفية لا نجدها حتى في الواقع المادي.
إن خطورة الواقع الافتراضي تكمن في اتساعه وعدم تناغم مكوناته. فقد يدخله المرء لتحصيل المعرفة، فيجد نفسه أمام إمكانية تعلم أشياء كثيرة لم يكن يفكر يوما في تعلمها. فهناك مواقع تمكنك من المعلومات التي أنت في أمس الحاجة إليها، لكن هناك أخريات تعلمك كيفية اختراق المواقع والتلصص عليها والعمل على إغلاقها. قد يكون ذلك من باب اللعب، ولكنه يتحول جدا حين يلحق الأذى بالآخرين.
إن ما جعلنا نركز على هذا الجانب اعتبار البعض هذا الواقع بديلا عن الواقع الذي يفر منه، متوهما أنه يحقق له رغبات معينة أو يسمح له بتقديم صورة عن ذاته يفتقدها في الواقع. فالمرء ما أن يقطع اتصاله بهذا الفضاء الشبكي حتى يجد نفسه مجددا أمام واقعه الحقيقي. فتكون النتيجة: التعايش مع واقعين «مختلفين». ومع توهم وجود «سرية» أو «حرية» ما في الواقع الافتراضي، يحصل الانفصام وتتولد الأوهام.
أمام واقع كهذا يعكس صورة الواقع الذي نعيش فيه، لأنه نتاجه، يكثر الضحايا والمجرمون. وتتفاقم المشاكل، ويزداد الواقع التباسا. ومن هنا تأتي أهمية التربية الرقمية وتنمية الوعي الرقمي. إننا كما نربي أطفالنا على كيفية الحياة في الواقع بناء على أساس مثل وقيم نقتنع بجدواها لتكوين جيل يقدر المسؤولية ويضطلع بعمله بما يخدم الصالح العام، ويقدم سلوكه نموذجا لذلك، علينا العمل على بذل مجهود مضاعف لتشكيل أدبيات جديدة لتربية رقمية قوامها :
أ. الوعي بتكنولوجيا المعلومات والتواصل، وأهميتها في إنتاج المعرفة وتلقيها.
ب. الوعي بخصوصية الواقع الافتراضي ومنافعه ومضاره، وذلك لتجنب الأوهام والتصورات الخاطئة التي يمكن أن تتولد عن الانخراط فيه بدون إدراك أو تقدير لكل ما يعتمل فيه.
ج. الوعي بأهمية المساهمة في تشكيل واقع افتراضي تسود فيه قيم التسامح والحوار التي تخدم الإنسان، ومواجهة كل التصورات التي تسعى إلى اتخاذه فضاء لنقل مشاكل الواقع وتناقضاته وصراعاته بكيفيات سلبية ومرَضية.
إن هذه الأنماط الثلاثة من الوعي ترمي مجتمعة إلى تحصيل المعرفة العلمية والتكنولوجية من جهة. كما أنها تسعى، من جهة ثانية، إلى تنمية القيم والمثل الإنسانية، لأن من أهداف الواقع الافتراضي، غير المعلنة، تحقيق التواصل والتقارب، وإلغاء الحدود بين الأفراد والجماعات بغض الطرف عن عرقها أو عقيدتها او ثقافتها.
كان من الممكن أن يكون هذا الواقع الجديد (الافتراضي) عالما فاضلا ومثاليا، يتحقق فيه الحلم الإنساني في التواصل والتسامح والتعايش بالكيفية التي لم تتجسد قط في كل التاريخ الإنساني. إن إقدام أي شخص أو أي مؤسسة على فتح موقع أو مدونة أو منتدى في هذا الفضاء لدليل قوي على الرغبة في التواصل مع الآخر والحوار معه وإيصال منفعة ما إليه. وحتى في حال الاختلاف معه، وإن كان جذريا، فالمطلوب الحوار والنقاش، وتوسيع المدارك والمعارف.
يؤسفني في هذا النطاق التوقف على بعض التعليقات، على بعض المقالات التي تنشرها بعض المواقع المغربية المحترمة، والتي نشتم فيها رائحة العنصرية المقيتة والنزوع العدواني، والتي هي دخيلة على ثقافتنا المغربية. ولا أجد أي مبرر لذلك لدى أي كان من ممارسيها باسم الحداثة أو الدين أو العرق… إن استعمال لغات القذف والتجريح المجاني للأشخاص وعدم الالتزام بقواعد الحوار ومبادئه والإيمان بالاختلاف، لا تدل إلا على نفسيات مريضة، لأنها ما أن تعود إلى الواقع حتى تجده على خلاف ما تتوهم، وهي تظن أنها تنجز حروبا فاصلة؟
إن هذه النزعات لا يمكنها إلا أن تولد نقيضها، فالعنف لا يولد غير العنف. وأرى أن جزءا من المسؤولية تتحملها تلك المواقع التي عليها مراقبة تلك التعليقات التي تتعارض مع القيم السامية، والتي لا معنى لها غير الإساءة إلى الآخرين، وذلك بهدف الارتقاء بالحوار إلى المستوى الذي يخدم القضايا التي تهم المواطن المغربي. إن هذه السلوكات لا يمكنها إلا ان تجعل  من المجال الشبكي المغربي فضاء للكراهية والعدوان المتبادل.
إن التصورات المستمدة من واقع الصراع في الواقع لا ينفع نقلها إلى الواقع الافتراضي، لأنه سيضع حدا لحرية الاختيار والحوار. وتجاوز هذه الذهنية هو الكفيل بإعطاء هذا الفضاء تميزه وخصوصيته. يمكن للواقع الافتراضي أن يكون فضاء جميلا ومثاليا فعلا إذا ساهمت التربية الرقمية الجديدة في تحصينه ضد الشركات الفاسدة والجماعات المتطرفة والعنصرية. ولما كان هذا أشبه بالمستحيل، فإن التربية السليمة هي الكفيلة بجعل مستعمليه يدركون، من جهة، خصوصية هذا الواقع ومشاكله، وأنه ليس بديلا عن الواقع. ومن جهة أخرى، يعون أن هذا الواقع يمكن أن يكون إيجابيا، إذا تم استثماره بشكل مفيد يحوله فعلا ليكون مساحة للحوار والإبداع والتسامح ومجالا للإبداع والتلقي.
بقلم : سعيد يقطين, كاتب وناقد

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire